سماع مراكش وتشريح احياء مراكش العتيقة مجاليا وعمرانيا وتاريخيا

كــتــب: مـحـمـد الـقـنــور
الزاوية العباسية وحي سيدي بن سليمان الجزولي إلى عرصة بلبركة وعرصة سي علي المسفيوي، ، وعرصة بلبركة ومن رياض الزيتون والقنارية إلى حي القصبة وحي بريمة، ومن حي اسوال وحي حارة السورة، إلى أحياء باب دكالة مرورا بالرميلة، ومن حي القصبة إلى أحياء قشيش ودوار كراوة، تثير أزقة ودروب ومرافق مدينة مراكش العتيقة، بتصاميمها وهيئتها المعمارية وإنعراجاتها، وتفاوت أبعادها الهندسية وشساعتها وطولها وعرضها، وتداخلها مع بعضها البعض، أو إنعزالها وطرائق تصميمها، تساؤلات لا حصر لها لدى من لا يعرفون القواعد المعمارية الحاكمة لها، والراسمة لمعالمها عبر التاريخ وتراكمات تنوعات أشكالها المعمارية منذ عصر المرابطين إلى عصرنا الحالي، ذلكــ ، أنه ترتب على مبدئَي “لاضرر ولاضرار”، والأخذ بالعرف، في تقرير أحكام البناء، ونشوء مبدأ “حيازة الضرر”، أولى أولويات صياغة مراكش كعاصمة للخلافة الإسلامية، وكحاضرة من كبريات حواضر الغرب الإسلامي، تزيد إتساعا على دمشق وبغداد والقاهرة، وقرطبة، وغيرها من عواصم الشرق الإسلامي والغرب الإسلامي.:
ويتمثل مبدأ حيازة الضرر الفقهي في أن من سبق من الساكنة في البناء يحوز العديد من المزايا التي يجب على جاره الذي يأتي بعده، أن يحترمها، وأن يأخذها في اعتباره عند بنائه مسكنه، وبذلك كان المنزل الأسبق يصيغ المنزل اللاحق من الناحية المعمارية نتيجة لحيازته الضرر، ثم يُسيطر العقار الأسبق على حقوق عديدة يحترمها الآخرون عند بنائهم، فضلًا عن الحقوق التي قررتها الشريعة وفقهاء المالكية من المغاربة في مجال التنظيم العمراني، وكلاهما معا أدى إلى وجود بيئة عمرانية مُستقرة، ونتج عن ذلكـ إستقرار حومات وأسواق ومرافق مدينة مراكش، من أسواق ورياضات ودور ودويريات، وأوراش للصنائع، ومحلات للتجارة، وسقايات وحمامات، ومزارات، وصوامع ومقابر، ومساجد، وأقوس رئيسية وأقواس أخرى فرعية تفصل بين الحومات، وساحات، ومساجد وجوامع وكتاتيب، وأبواب، وخطارات، وأبار ونافورات، فصارت طيلة قرون متلاحقة، تنكشف بسهولة ملامح التعدي عليها بالبناء النشاز،أو البناء الغير المتناسق مع نسقيتها المعمارية.
وقد إستطاعت الدورة الثانية عشرة، لموسمية سـماع مراكـش، المنظمة تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، من طرف جمعية منية مراكش لإحياء تراث المغرب وصيانته بشراكة مع وزارة الشباب والثقافة والتواصل ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ، ومجلس جماعة مراكش ، ومجلس جهة مراكش آسفي ، وولاية جهة مراكش آسفي، ومجلس عمالة مراكش، والمدرسة الوطنية للهندسة المعمارية مراكش، وشركاء آخرين من المراكز التعليمية، ومعاهد التكوين، والمؤسسات الاقتصادية، تحت شعار “أدخلوها بسلام آمنين”، أن تكشف هذه الأسرار، وهذه الروعة في العمران، وهذه الدقة والروح الإستشرافية اللتان طبعتا معمار مراكش وكل مدينة مغربية عتيقة .
فعلى مدى أربعة أيام من 19 إلى 22 أكتوبر الفارط، إنكبت موسمية سماع مراكش، ضمن ندوتها الدولية ، وتحت إدارة الأستاذ جعفر الكنسوسي الباحث الأكاديمي في قضايا التراث المغربي المادي واللامادي، وبحضور ومشاركة مجموعة من المسؤولين الحكوميين والإداريين السابقين، والمهندسين المعماريين والمخططين الحضريين وعلماء الاجتماع، ومختلف الكفاءات المنخرطة في مجالات العمران والتعمير والإسكان ، وصناع القرار من المسؤولين على مناقشة وتحليل طرق تنظيم وتنفيذ برامج الحفاظ على النسيج الحضري القديم في المدن العتيقة المغربية وسبل ترميمه.
كما تميزت الندوة الدولية المذكورة، بحضور باقة من الرموز الفكرية والكفاءات الهندسية الوطنية والعالمية، والأوساط الأكاديمية المختصة في قضايا التراث والمعمار المغربي، والعديد من الفعاليات الاقتصادية ونساء ورجال الأعمال، والمستثمرين العقاريين، والمنعشين العقاريين،والفنانين والفنانات بمختلف المجالات النعبيرية والتشكيلية، ورواد المشاريع السوسيو ثقافية، والمؤسسات السياحية من مسيري المنتجعات السياحية ومدراء المراكز الثقافية، وأطر معاهد تكوين المهندسين، وخبراء المعمار والعمران، ومختلف الشرائح الاجتماعية من أرباب الصنائع ومهرة الحرف ذات العلاقة بالمعمار، وجماليات العمران من نقاشين وجباصين ونجارين وبنائين، وزخرفيين، وصفارين، وطبايلية، وفسيفسائيين … فضلا عن الأساتذة والطلبة الباحثين من جامعة القاضي عياض وجامعات مغربية وعالمية أخرى.
إلى ذلكــ ، إنصبت أشغال ندوة موسمية السماع الدولية، ومنذ الجمعة 20أكتوبرالفارط على واقع وآفاق ترميم تراث المدن العتيقة المغرب، وبُنى هذه المدن العتيقة بالمغرب وكيفيات نموها، وعلاقة مراكش المدينة العتيقة بالصناع الحرفيون، حيث تم تقديم نموذج اجتماعي اقتصادي بديل، كما تعلقت مداخلات أخرى بالسياسات الجديدة المتعلقة بتثمين التراث، وتحليل ومناقشة مدى فعاليات برنامج تثمين المدن العتيقة.
في حين تناولت محاور أخرى من الندوة الدولية المذكورة، طرق البناء المحلي وعبقرية الدواوير بجبل درن الأطلس، ومخطط صون مدينة سلا العتيقة، وأهمية الممارسات الحضرية الفضلى في إحياء خزانات الكتب بالمدن العتيقة، من خلال خزانة ابن يوسف بحي الطالعة في مراكش، وحول الكيفية تطبع المعاهد الدينية وتبصم مؤسسات الصلاح في مراكش المدينة العتيقة بحضورها الروحي ،ودور الميثاق المعماري في الحفاظ على المناظر الطبيعية لمدينة مراكش، ونظرات في التراث ضمن رحلة إستقرائية للمكان والزمان من مراكش إلى تارودانت ، وإنتظارات الأوساط الجمعوية في المناطق المتضررة بزلزال الحوز، من خلال رؤيا محلية وجهوية ووطنية لإعادة الإعمار بجبال الأطلس المعروفة تاريخيا بجبل درن، وماهية سياسة إعادة الإعمار المندمج،وكيفيات إصلاح أضرحة الأولياء سبعة رجال بمراكش وترميمها، كما تم بسط مختلف مشاريع ترميم المدن العتيقة كفاس، و تطوان، وطبيعة ونجاعة المواد المحلية المستعملة في البناء بين الماضي والحاضر، وإختلافات المواد الحيوية المجددة وحول كيفيات إعادة التأهيل والمقاربات الرقمية لتراث المدن ومشاريع الإقامة لدى الساكنة من أهل البلد بدواوير جبال الأطلس .
كما تم إستعراض نموذج ترميم وإصلاح في مدينة مراكش، ونماذج للترميم في المناطق الحضرية والقروية، ودور الهندسة المدنية في تحديات البناء المقاوم للزلازل، وسبل دعم تعمير المناطق المتضررة من كارثة 8 شتنبر المنصرم .
ومهما يكن، فقد نشأت كيفيات خطط ودروب وأزقة وحومات “حارات” مراكش، على مبدأ شرعي قوامه، أن الطريق ملك لجماعة المسلمين، وبالتالي فالسيطرة عليه من حق المارة أو المستخدمين له، لدرجة أن الدين الحنيف جعل من إماطة الأذى عن الطريق صدقة، واعتبرته من أدنى مراتب الإيمان، لدى ظلت الطرق والممرات في مراكش شبه مقدسة، لا تتغير ولا يسيطر عليها أحد من الساكنة مهما كان نفوذه أو علت درجته الاجتماعية.
وحيث أن المارة هم المستخدمون، فالطريق تقع تحت سيطرتهم، ولأن كل ساكن في المدينة يمر ببعض الطرق أكثر من غيرها، فهو بذلك عضو في الفريق المسيطر على كل هذه الأزقة والشوارع التي يمر بها، لذلك فإن عدد المسيطرين اختلف من طريق لآخر، لاختلاف عدد مرات ترددهم عليه، بناء على موقع الطريق واتجاهه.
ثم أن الجموع من المارة، ممن يمرون على سبيل المثال وليس الحصر، من شارع عرصة المعاش، الذي يربط تجمع أحياء القصبة والملاح، وروض الزيتون وبريمة بساحة جامع الفنا، ومحيطها السكني كدرب ضبشي والمواسين والقصور وحي الرميلة، وباب فتوح، وغيرها، لابد وأن يختلف عن الفريق الذي يمر بطريق فرعي كعطفة “صابة بن داوود” على سبيل المثال، والمتفرعة من روض الزيتون “القديم” والموصلة إلى حي القنارية.
حتى إذا نشأت مدينة جديدة، أوحي جديد، فإن البناء فيها يتم عن طريق تتابع عمليات البناء في أماكن هذا الحي، فإذا كثر عدد المارة في مكان ما، فإن هذا الطريق سيكون أكثر سعة، وسيمنع المارة فيه، بناء على حق الارتفاق وحق المرور، أي بناء يضيق الطريق، وبذلك يزحف البناء، وتتجاور الوحدات المعمارية بجوار بعضها بعضًا، إلى أن تستقر حدود الطرق تبعا لاستخدام المارة لها. فالطريق يعكس رغبات، وإمكانات، وقيم الناس، فالطريق نتج عن تراكم قرارات المجمعات السكنية، وهذه القرارات بنيت على الأسبقية في التصرف؛ فمن فتح حانوتا قبل جاره المقابل فقد حاز الضرر، وبهذا فإن العلاقة بين الفرق الساكنة ترتبت واستقرت بحيازة الضرر، وكان الطريق وعاء لذلك الاستقرار.
وبذلك نستطيع أن نقدم تفسيرًا واضحًا عن كيفية نشأة شبكة الطرق في أحياء المدن العريقة بالمغرب، وحتى من دون تخطيط مسبق من الدولة، فقد أملت حاجة السكان تشكيل هذه الشبكة في بعض الأحياء في لمدن المغربية العريقة وفي مراكش، على غرار حومة زاوية لحضر، وحومة بريمة، وحومة رياض الزيتون، وحومة حارة السورة وحومة القصور، وحومة قاعة بن ناهيض، وحومة إسبتيين، وحومة أسوال وأحياء الزاوية العباسية، وحومة بن صالح.
بل إن مدينة مراكش، نشأت كحاضرة، ثم كعاصمة للخلافة من عواصم الغرب الإسلامي، من تخطيط مسبق من المرابطين كسلطة مركزية، فوضعوا لها شبكة من الشوارع تعكس مدى ما كانت عليه من تنظيم جيد، فالشارع الأعظم مثلا كشارع اسبتيين، أو شارع القصبة، أو شارع الرميلة الذي يسمى كشوارع أخرى عادة بالطوالة، عادة ما يخترق الأحياء من الجنوب للشمال ، أو من الشرق إلى الغرب وقد يوازيه عدد من الشوارع الأخرى، في حين تتخلله يمينا ويسارا الحومة كشارع عرصة الغزايل أو عرصة الحوتة مثلا اللذان يتفرعان عن اسبتيين، أو شارع الجبل الأخضر وحومة عرصة الحامض اللذان يتفرعان عن شارع الرُمَيلة ، الحامل لإسم تلكــ الأميرة المرابطية، فظل الحي يحمل إلى الآن إسمه، في حين أطلق على الشارع، إسم فاطمة الزهراء، إحياء إلى ذكرى الشهيدة فاطمة الزهراء بنت مولاي لحسن، التي إستشهدت في مظاهرة المشور، في مراكش، سنة 1953 ، على إثر نفي بطل معارك التحرير جلالة الملك محمد الخامس يرحمه الله.
وعلى كل حل، فالشوارع التي تربط ما بين شرقَيْ مراكش، وغربَيْها منذ فترة المرابطين، فإنها تعكس طريقة نشأة هذه الشبكات من الطرق بالمدينة طبقا لما سبق ذكره وهو ما توضحه الخرائط والرسومات، والمخطوطات، ومازالت شبكة الشوارع هذه مستخدمة إلى اليوم من قبل سكان المدينة، مع بعض التغييرات الشكلية الطفيفة التي لحقت بها، مما يؤكد أن هذه الشوارع ، ظلت عبر الأزمنة والعقود تلبي متطلبات السكان.
ولا يفوتني الصديقات المحترمات وأصدقائي الكرام،وأنا أكتبُ ما أكتبُ، عن ندوة موسمية سماع مراكش الدولية، التي نظمتها جمعية منية مراكش لإحياء تراث المغرب وصيانته، على أن أذكر أن هناك حديثًا نبويًا حدد عرض الطريق، فقد روى ابن وهب عن إسماعيل بن عياش عن ربيعة بن عبد الرحمن وزيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا اختلف الناس في الطريق فحدها سبعة أذرع”، وروى ابن وهب في حديث مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “كل طريق يسلكها الناس فإنها سبعة أذرع يبني كل قوم على حدهم، ومن بنى على بقيع فهو له، ومن أعمره فهو له، وكل بقيع لم يبن عليه فهو لله وللرسول وليس هو لكـ ” .
ولم يكن فقهاء المسلمين من المغاربة وغير المغاربة في تناولهم لحد سعة الشارع جامدين، بل كانت لهم نظرة مرنة وإجتهادية إستشرافية في التعامل معه تُساير معطيات العصر، وتُراعي الخصوصيات الجغرافية، والديموغرافية، والظروف البيئية والنزعات السوسيو- تاريخية التي تحكم كل مدينة.
كما أن صحابة النبي الأكرم، وأثناء تخطيطهم لبناء مدينة البصرة، على عهد الخليفة الثاني، أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رحمه الله، إتبعوا خططا لسكن المسلمين الأوائل، من القبائل المختلفة ممن قدموا لها، وإستوطنوا أرجائها مع فتوح العراق وفارس، فكان لزاما على قادة عمر وأركان جيشه من أمثال سعد بن أبي الوقاص والمثنى بن حارثة، وغيرهما، أن يراعوا في تصميم هذه المدينة، طبائع وخصوصيات وإختلافات العرب من قبائل مضر ومن قبائل ربيعة، وما كان بينهم في الجاهلية وفي صدر الإسلام من حروب وأهوال، ومن تفاخر وتنابز بالكلام، ومبارزات بالسيوف، لم يستطع الإسلام رغم رسالته السمحاء، أن يطفئ من نيرانها بشكل قطعي، أو أن يحد من جماحها.
فقد جاء صحابة النبي الأعظم، فجعلوا من المربد شارع البصرة الأعظم، وجعلوه ستين ذراعًا، وجعلوا عرض ما سواه من الشوارع عشرين ذراعًا، ثم جعلوا عرض كل زقاق سبعة أذرع، وسط كل خطة رحبة فسيحة لمرابط خيولهم ولمقابر موتاهم، ثم أنهم تلاصقوا في المنازل، ولم يفعلوا هذا فيما يذكر أبو الحسن البلاذري في “فتوح البلدان” ويذكره المؤرخون والجغرافيون، إلا عن رأي اتفقوا عليه ونص لا يجوز خلافه”.
ثم قام بعد الفاروق عمر يرحمه الله، الفقهاء بصياغة قاعدة لاستخدام الطرق عبرت عن نضج فقه تخطيط المدن في الحضارة الإسلامية، وحق المرور كحق يوصل الناس إلى ممتلكاتهم، سواء كانت دارًا أو بستانا، أو رياضا أو أرضًا خلاء، من طريق يمر فيه الناس، سواء كان طريقا عاما، أم من طريق خاص في ملكية صاحبه أو في ملكية غيره.
وطبيعي، فقد قسم الفقه الإسلامي، وأئمة المالكية، الطرق بالمدن الإسلامية إلى ثلاثة مستويات، أولها الطرق العامة ويطلق عليها في المملكة المغربية إسم “طريق المخزن” لدى العامة، وهذا الطريق مباح لجميع الناس ارتياده، ومباح إيقاف الدواب أو المركبات فيه، أو فتح نافذة مطلة عليه، أو اتخاذه مكانًا للبيع والشراء، بشرط ألا يضر بالمارة ولا يعرقل الطريق نفسه، وذلكــ على شرط إذن الحاكم، حيث روى الإمام البخاري رحمه الله، وباقي الأئمة من المحدثين عن النبي صلى الله عليه وسلم، قوله “ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه فإذا لم يأذن لم تطب”.
وأمثلة الطرق العامة في مراكش، حاضرة الغرب الإسلامي، وأكبر مدنه مساحة، كثيرة ومتنوعة، تربط بين شرقي مراكش، وبين جنوبها وتصل مساجدها بأسواقها، وأحيائها ببساتينها ومرستاناتها ومدارسها وسقاياتها ومزاراتها، كتاتيبها وحماماتها، اوراش صنائع أهلها وفنادقها، وهذا النوع من الطرق ظل دائما من حقوق ساكنة المدينة وزوارها، وكانت السلطات عبر تاريخ المغرب الطويل تتدخل في بعض الأحيان لصيانة والحفاظ على هذا النوع من الطرق.
ثم الطريق العام الخاص، وهو أقل درجة من الطريق العام، حيث تقل أهميته عن سابقه، وبالتالي تزداد سيطرة الفريق الساكن فيه عليه، وقد كثر هذا النوع من الطرق في مراكش وفاس، وفي الرباط وسلا، وفي تطوان ووجدة، وفي شفشاون، وفي الصويرة والدار البيضاء بالمدينة العتيقة، وفي وزان وتارودانت وفي غيرها من الحواضر المغربية العريقة، حيث كانت عادة ما تفضي إلى الطريق العام، ثم تتوزع منه شبكة طرق أكثر خصوصية، ومن أمثلة هذا النوع من الطرق عندنا في مراكش، طريق سيدي اليماني بمراكش الذي يربط بين حي المواسين وحي القصور، وصابة بن داوود، وعطفة قصيبة النحاس، المتفرعة من حي القصبة ،وطريق سيدي بودشيش، وزقاق “دفة وربع” وشارع دار الباشا، وحارة زاوية لحضر.
ثم أخيرا، الطريق الخاص، وأفضل أمثلة هذا النوع من الطرق هو الطريق غير النافذ، أو الدرب المسدود، حيث يبقى هذا النوع من الطرق في ملكية ساكنيه فقط ولذا سمي خاصا، على خلاف المستوى الأول والثاني من الطرق، المشتركان بين الجميع وفيهما حق كل العامة، من الساكنة ومن الزوار.
والقاعدة التي استقر عليها الفقهاء في حكم مثل هذا المستوى من الطرق هو أنه يجوز لأي ساكن أن يتصرف في الطريق إلا بموافقة شركائه فيه. ومن هنا نستطيع أن نفسر تلك العبارات التي وردت في سجلات المحاكم الشرعية، والخاصة بمثل هذا النوع من الطرق مثل «زقاق مشترك الانتفاع.
ومهما يكن، فقد انتشرت الدروب، والأزقة الغير النافذة في حاضرة مراكش، ومختلف المدن العتيقة المغربية، مما ترتب على هذا التتابع مستويات في الطرق بمدينة مراكش، وخصوصيات متدرجة تبعا لمواقعها في المدينة، كما انعكست هذه الخصوصيات على الحارات والدروب.
كما باتت من خصوصية الحومة في مراكش وفي غير مراكش، من حواضر المملكة العريقة، أنها وحدة اجتماعية متماسكة، وأصبحت الحياة فيها بمنزلة الحياة داخل المنزل الواحد، حيث يتضامن الأفراد مع بعضهم، ويتشاركون الأفراج والأتراح، وحيث يجمع بينهم المسجد الواحد والحمام الواحد والفران الواحد والبقالون والصناع والخدماتيون الواحدون، حتى أن الغريب كان يلج إلى داخل الحومة، هذا المجتمع المغلق، فتترصدهُ الأعين، ويجري تتبعه من الأطفال والتنبيه إلى وجوده.:
وعلى كل حال، فقد عكس كل ذلكــ مدى التكاثف والترابط الاجتماعي، ودفق التمدن، وسعة العقول والنفوس، وعمق الحضارة الذي كانت ولاتزال تتمتع به المدينة المغربية العريقة في مراكش وفاس والرباط، ومكناس وتيزنيت، والصويرة، وآسفي، وسلا وتطوان، وتارودانت ووزان، وطنجة وأسماره ودمنات، وغيرها.




شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...