الإعلام الدولي وقضية الصحراء المغربية… بين وهم الحياد وحقيقة الاصطفاف

العاصمة بريس الرباط
بقلم_منير نافيع
منذ ما يقارب نصف قرن وملف الصحراء المغربية حاضر في صدارة المشهد السياسي والإعلامي، ليس فقط داخل المغرب ولكن أيضا على مستوى المنتظم الدولي. ومع مرور الزمن، تحول هذا الملف من قضية نزاع إقليمي إلى اختبار عالمي لمدى نزاهة الخطاب الإعلامي وصدق ادعاءاته بالموضوعية والحياد. فالإعلام، كما الدبلوماسية، لم يعد مجرد وسيلة لنقل المعلومة، بل أصبح أداة لصناعة المواقف والتوجهات وفضاء لتوجيه الرأي العام الدولي وفق أجندات دقيقة، غالبا ما تدار من وراء الكواليس.
منذ المسيرة الخضراء سنة 1975، حمل الإعلام المغربي على عاتقه مهمة الدفاع عن شرعية السيادة الوطنية في الأقاليم الجنوبية وترسيخ الوعي الجماعي بوحدة الوطن في مواجهة محاولات التشكيك أو التشويش. ورغم ما عرفه هذا الإعلام من فترات ضعف أو تكرار، إلا أنه نجح في خلق ذاكرة وطنية متجددة جعلت من الصحراء المغربية قضية إجماع تتجاوز الانتماءات الحزبية والإيديولوجية. فالصحافة المغربية كانت ولا تزال امتدادا رمزيا للمسيرة الخضراء في بعدها الاتصالي، وكل تقرير أو مقال أو نشرية هو في حد ذاته استمرار لتلك المسيرة بوسائل حديثة وأدوات جديدة. ومع ذلك، واجه الإعلام الوطني تحديات جديدة فرضها العصر الرقمي والعولمة الاتصالية، حيث لم يعد المتلقي وطنيا فقط، بل صار جمهورا دوليا متشابك المرجعيات، ما جعل معركة الصحراء تنتقل من الميدان الدبلوماسي إلى الفضاء الرمزي للإعلام العالمي، حيث تصاغ السرديات وتحدد المواقف.
حين نتابع ما تنشره كبريات المنابر الدولية حول قضية الصحراء المغربية، ندرك أن “الحياد الإعلامي” المزعوم ليس سوى واجهة لاصطفاف سياسي واضح. فالإعلام الغربي، خصوصا الفرنسي والإسباني، لا يتعامل مع الملف من منطلق المهنية الصحفية، بل يعكس مواقف دوله التي تحاول الجمع بين مصالحها الاقتصادية في المغرب وضغوطها التاريخية والسياسية. أما الإعلام الأمريكي فيبدو أكثر تحفظا، لكنه لا يخرج عن منطق الحسابات الاستراتيجية المرتبطة بالطاقة والأمن في شمال إفريقيا. وفي أمريكا اللاتينية وإفريقيا، لا تقرأ القضية إلا من زاوية التضامن الإيديولوجي، متأثرة بالدعاية الجزائرية التي تستغل ضعف المعرفة بتاريخ المغرب ووحدة ترابه. والنتيجة أن التغطية الإعلامية الدولية غالبا ما تكون موسمية، تشتعل مع كل تقرير أممي أو زيارة مبعوث خاص، ثم تخبو سريعا، مما يفرغ القضية من عمقها التاريخي والإنساني ويحصرها في إطار تقني بارد كما لو أنها نزاع حدودي عابر لا قضية وطنية ممتدة في وجدان المغاربة.
لقد مثلت مبادرة الحكم الذاتي التي قدّمها المغرب سنة 2007 نقطة تحول حقيقية في مسار الملف، إذ نقلت النقاش الأممي من منطق “الاستفتاء” إلى منطق “الحل السياسي الواقعي”. هذه المبادرة التي وصفتها قرارات مجلس الأمن بأنها جادة وذات مصداقية، أعادت تعريف النقاش وأحرجت الأطراف الأخرى، غير أن جزءا من الإعلام الدولي تجاهل هذا التحول أو تعمّد التقليل من أهميته، إما بسبب الجهل أو بسبب الارتهان لمصادر متحيزة. ومع ذلك، استطاع المغرب من خلال الدبلوماسية الملكية الهادئة أن يفرض لغته السياسية داخل أروقة الأمم المتحدة، وأن يجعل من مبادرته مرجعا أساسيا لأي حل مستقبلي، الأمر الذي أكسبه احتراما دوليا متزايدا. لكن السؤال الجوهري الذي يظل قائما هو: لماذا يعجز الإعلام الدولي عن التقاط هذه التحولات الجوهرية، أهو قصور مهني، أم تعمد سياسي للحفاظ على ضبابية تخدم مصالح معينة.
اليوم، في زمن الثورة الرقمية، تحولت المعلومة إلى سلاح. صارت المنصات الرقمية جزءا من ساحة المعركة، تستعمل لترويج المغالطات وبناء سرديات موازية تعيد إنتاج خطاب “تصفية الاستعمار” بلغة جديدة. أمام هذا الواقع، لم يعد كافيا أن يكتفي المغرب بخطاب دفاعي أو برد الفعل، بل أصبح من الضروري بناء استراتيجية اتصالية هجومية، تنفتح على اللغات الأجنبية وتستثمر في الكفاءات الإعلامية، وتوجه رسائلها نحو الرأي العام العالمي لا المؤسسات الرسمية فقط. فالرواية المغربية، رغم قوتها القانونية والتاريخية، تحتاج إلى تحديث في أسلوب عرضها لتخاطب العالم بلغته وتُقنعه بمرجعياته.
إن التحدي الحقيقي اليوم لم يعد في إثبات مغربية الصحراء بقدر ما هو في كسب المعركة السردية على المستوى الدولي. فالقضية لم تعد فقط نزاعا جيوسياسيا، بل تحوّلت إلى صراع على الذاكرة والمعنى. الإعلام هنا لم يعد ناقلا للوقائع بل صار منتجا للحقائق البديلة، ومن يمتلك القدرة على صناعة الرواية يمتلك سلطة التأثير. والمغرب، بعد عقود من الدفاع، بدأ ينتقل تدريجيا إلى موقع المبادِر، مستفيدا من الدبلوماسية الملكية النشطة ومن شبكة علاقاته الواسعة في إفريقيا وأوروبا وأمريكا. غير أن هذا التحول لن يكتمل دون إعلام وطني قادر على مجاراة هذا الإيقاع، إعلام يتجاوز التعبئة العاطفية إلى التحليل الاستراتيجي، ويستثمر في المعرفة لا في الشعارات.
الصحراء المغربية اليوم ليست فقط قضية وطنية، بل مرآة لقدرة المغرب على فرض حضوره في العالم، لا بالجيش ولا بالدبلوماسية وحدهما، بل بالكلمة والصورة والحجة. إنها معركة سردية عالمية تشتبك فيها المصالح والروايات، ويُقاس فيها وزن الدول بما تمتلكه من قدرة على إقناع الآخر بعدالة قضيتها. لقد آن الأوان لأن يتحول الإعلام المغربي من ناقل للموقف الرسمي إلى فاعل في تشكيل الرأي العام الدولي، وأن يدرك أن الحقيقة وحدها لا تكفي إن لم ترو بذكاء. ففي زمن تتغير فيه الحقائق بسرعة الضوء، من لا يُحسن سرد قصته يحكى عنه بما لا يريد.

