الشباب العربي والعالم ما بعد كورونا

خليفة مزضوضي مدير أكاديمية الأنطاكي الدولية الخاصة للبحث والتدريب والابتكار والتنمية وتنمية القدرات

يشكل البحث عن عالم جديد بعد جائحة كوفيد 19 ومتحوراته قضية فكرية وسياسية من طراز رفيع، تهم كافة الأجيال والجنسيات والمجتمعات والمؤسسات الدولية والوطنية دون استثناء، ففى خلال العامين المنصرمين كثيراً ما طُرح سؤال: كيف سيكون العالم بعد احتواء تلك الجائحة؟ وهو سؤال افتراضى، وتتطلب الإجابة عليه معرفة دقيقة بحجم وتأثيرات التغيرات التى لحقت بمختلف المجتمعات. والإشكالية الكبرى هنا أنه لا يمكن تحديد مدى زمنى معين لانتهاء تلك الجائحة، وبالتالى يظل البحث عن خصائص عالم مرتقب خاضعاً لمتابعة حجم التغيرات التى جرت بالفعل، وكيف لها أن تعيد تشكيل العالم الذى كنا نعرفه قبل الجائحة، وندرك فى قرارة أنفسنا أنه لن يبقى على حاله مهما حاولنا. وقد وُفِّق منظمو منتدى الشباب العالمى الرابع الذى نظم بشرم الشيخ فى اختيار مقولة «عالم ما بعد الجائحة» كشعار رئيسى لأعمال المنتدى، وقضية مركزية ينتج عنها الكثير جداً من القضايا الفرعية المهمة التى تتطلب تأملاً عميقاً ومن كافة الزوايا.
ومرجع التوفيق أن التطلع لعالم جديد يستفيد من تجربة مواجهة وباء ضرب العالم كله، بجوانبه السلبية والإيجابية معاً، يهم قطاع الشباب بصورة مركزية، فهم الذين سوف يتعاملون مع هذا العالم المرتقب فى غضون عقد أو أقل، ومن ثم فالأوفق أن يكون لهم إسهام رئيسى فى فهم آليات مواجهة الجائحة، وفى النتائج التى ترتبت على تلك الآليات بمنظورها الشامل، اجتماعياً وسياسياً وفكرياً واستراتيجياً واقتصادياً وأيديولوجياً، ومن ثم الاستعداد لحراك اجتماعى ودولى مختلف عن الوضع الراهن.
وكما قيل ، أن الحياة بعد الجائحة سوف تستمر، رغم المعاناة التى مر بها الجميع، مشيراً إلى أن الجائحة هى بمثابة إنذار للإنسانية وأمل جديد، ففى كل محنة هناك منحة. ووفقاً لهذا الإدراك يُعد البحث فى تأثيرات الجائحة خطوة لا محيد عنها لرسم آفاق التحول المنتظر فى حياة العالم ككل، مع التفرقة بين قطاعات أصيبت بخسائر هائلة كصناعة الطيران والسفر والسياحة وسلاسل التوريد العالمية وأنماط التعليم المدرسى والجامعى التقليدى، وأخرى حققت فوائد كبرى كالتجارة الإلكترونية وصناعة البرامج والتطبيقات الإلكترونية، وصناعة اللقاحات، وارتفاع شأن التحول إلى رقمنة الأداء الحكومى وما يتبعه من تغيرات مهمة فى أنماط العمل واكتساب الرزق.
تؤدى هذه التفرقة بين قطاع خاسر وآخر حقق نقلات كبرى وفوائد هائلة ومرشحة لمزيد من الصعود، إلى تداعيات تختلف من حيث المدى والشمول من مجتمع إلى آخر، تبعاً لحجم تطوره الاقتصادى ومدى توافر الموارد لديه، وحجم تفاعلاته الخارجية، ومدى استعداد بنياته الأساسية لإحداث تغيرات محسوبة لكى تتوافق مع متطلبات عالم ما بعد الجائحة، والأهم من كل ذلك عامل رئيسى يتعلق بمدى استعداد الشعوب لتحمل أعباء التحول والتكيف مع العالم الجديد المرتقب. فبدون تأييد واقتناع المواطنين ببذل جهد أكبر وتحمل تضحيات الفترة الانتقالية والتكيف مع أساليب تعلم وطرق عمل وإنتاج وحتى ترفيه جديدة ومختلفة عما تم اعتياده سابقاً، ستتزايد تكلفة التحول، وتزداد معها درجة الصدام مع العالم المرتقب.

إن مشاركة قطاع الشباب بكل ما لديه من حماس وطاقة وقدرة على الإبداع وجرأة التعامل مع كل ما هو جديد فى مناقشة التحولات الكونية المرتقبة تمثل أحد شروط النجاح فى قدرة المجتمع على عبور المرحلة الانتقالية بين عالمين بأقل الأعباء والتضحيات المحتملة. وحين يشارك شباب اليوم، وهم قادة الغد، فى صنع المستقبل فهم يوفرون على أنفسهم الكثير من المطبات التى قد تظهر نتيجة قصور فى الخبرة وضعف فى الرؤية. ويظل من الضرورى أن تتوافر مساحة من التفاعل بين الأجيال الأقدم وتلك الأحدث، الأولى تقدم خبرتها دون وصاية أو فرض، والثانية تتأمل فى تلك الخبرة وتستفيد من دروسها سلباً أو إيجاباً، مع ربطها بما يفرضه العالم الجديد قيد التشكل من اتجاهات ومسارات وأفكار.

فعلى سبيل المثال، فإن تجربة المملكة المغربية تحت الرعاية الملكية لصاحب الجلالة فى قطاع الصحة سواء في محاربة جائحة كورونا أو ، فى مواجهة بعض الأمراض الشائعة كفيروس سى والسكر وضغط الدم، قبل ظهور جائحة كورونا، والتى ساعدت على رفع القدرات المناعية وتحسين الحالة الصحية لأكثر من 36 مليونا مواطن ساعدت أيضاً فى تخفيف حجم الضرر والانتشار الوبائى لفيروس كورونا ومتحوراته، مقارنة بمجتمعات أخرى لم تقم بمثل هذه المبادرات الصحية، فجاءت معاناة شعوبها شديدة القسوة. ولعل الدرس الأهم هنا، وإن انطلق من قطاع الصحة ممتداً إلى قطاعات أخرى، يتعلق أساساً بمفهوم حق المواطنين فى خدمات صحية شاملة، وواجب الحكومات فى تطبيق سياسات وقائية ممتدة، تكون بمثابة حائط صد أوّلى لمواجهة الكوارث الوبائية، أياً كان مصدرها.
والواضح أن أحد أهم دروس جائحة كورونا يتعلق بأولوية الصحة العامة، وعدم تركها كلية لاعتبارات السوق كما هو الحال فى الدول الرأسمالية، وأن توفر الحكومات الموارد اللازمة للحفاظ على صحة المواطنين فى أفضل حال، وأن تدعم دائماً المنشآت الصحية العامة وتوفر لها الأجهزة الطبية الحديثة، والحرص على رفع مهارات كافة العاملين فى القطاع الصحى للتعامل مع أى جوائح محتملة. والفكرة الرئيسية فى هذا المثال تتعلق أساساً بالاستعداد المجتمعى الكلى لمواجهة أى طارئ، والقدرة على المرونة فى الحركة والتكيف الإيجابى مع ضغوط العناصر والمتغيرات المفاجئة. وهو مفهوم لا يقتصر فقط على القطاع الصحى، بل على كل المجالات. ومن هنا يأتى الدرس الثانى لمواجهة أعباء العالم الجديد المرتقب، وهو القدرة على توظيف التقنيات الاتصالية فى ترشيد حركة المجتمع، وإعداده لعالم آخر لن يخلو من صعوبات.
وبالرغم من أن الأجيال الأحدث تبدو أكثر قابلية للتفاعل مع آليات وسبل الاتصال الحديثة، والتى تمثل أحد المحركات الكبرى للعالم الجديد، والاستفادة منها فى رفع الوعى الذاتى بمتطلبات الحياة الحديثة، فإن الأمر يجب ألا يُترك بدون تخطيط، وبدون صياغة رؤية مجتمعية شاملة لكيفية توظيف تلك التقنيات فى كل ما يتعلق بحركة المجتمع ببعديه الفردى والجماعى، مع الاستفادة من خبرات المجتمعات الأخرى، وألا يقتصر الأمر على استخدام تلك التقنيات المبتكرة من قبَل مجتمعات أخرى، بل الدخول فى معترك إنتاجها بجوانبها المادية والمعرفية، مع ربطها بمنظومة الأخلاق والقيم المجتمعية الكلية السائدة. وغير ذلك ترتفع أثمان التحول




شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...