في الحاجة للتاريخ

عندما استضاف جمال عبد الناصر هواري بومدين في الستينات إلى مجلس الشعب المصري قدمه للحضور ورحب به مجاملا قائلا “جاءنا من بلاد المليون شهيد”. فتلقف الإعلام الجزائري هذا الرقم السحري وأصبح لازمة مع أن لا دليل على صحة هذا الرقم في أي أرشيف معروف.
عندما غادر بن بلة السجن خطب في الجزائريين وأضاف نصف مليون شهيد للمليون الذي اخترعه جمال عبد الناصر فأصبحت الجزائر بلد المليون ونصف شهيد.
وقبل أسابيع خرجت الرئاسة الجزائرية ببلاغ ترد فيه على ما قاله ماكرون من كون الجزائر بصدد كتابة تاريخ مزور، قالت فيه أن عدد الشهداء ارتفع إلى خمسة ملايين ونصف مليون شهيد. ويبدو أن الرقم مرشح للارتفاع.
مشكلة حكام الجزائر مع التاريخ هي أنهم يعرفون أن لا تاريخ لهم، لذلك فهم يقضون الوقت كله في اختراعه.
هناك دائما في كل حومة شخص عاطل عن العمل وفاشل في حياته لم يسافر خارج مدينته قط يقضي سحابة يومه في تأليف القصص والأساطير حول أحداث متخيلة يلعب فيها دور البطولة، فهو محارب سابق حارب في الهند الصينية ومهاجر قديم جال بلدان العالم ومقاوم ناضل ضد الاستعمار ووضع قنبلة في قاعة للسينما لكنها لم تنفجر وألقي عليه القبض وعذب وتم نفيه…
شخص مصاب بمرض الكذب المزمن مثل هذا يوجد في كل مكان، وحكام الجزائر هم أحد أولئك الأشخاص الذين يحترفون نسج الخرافات وتأليف الأساطير معتقدين أن التاريخ يصنع بهذه الطريقة.
مثل هؤلاء الأشخاص يغطون على خواء وتفاهة حاضرهم بالاحتماء خلف الماضي حيث يمكنهم تأليف قصص بطولات وهمية ينسبونها لأنفسهم.
إنهم المثال الحي على الإفلاس والفشل وفقدان الوجهة. ولأنهم يحتاجون صناعة مبررات لبقائهم في الواجهة مطبقين على أنفاس الشعب فإنهم يؤلفون تاريخا مزيفا ويحشون به عقول الناس، فيتخذون الكذب منهج حكم والتزوير أداة للتحكم.
عندما أرى هذا الهوس المرضي لجنرالات الجزائر بصناعة تاريخ مزيف وأقارنه بالتجاهل وأحيانا الازدراء الذي يعامل به المغاربة تاريخهم المجيد الضارب في أعماق التاريخ أشعر بالحزن.
لدينا في كل مدينة قطع نادرة تحكي تاريخ الأجداد المجيد، أسوار بلا نهاية وقلاع شامخة تتحدى عوادي الزمن وأطلال ومدن تاريخية، ومع ذلك نرى كيف يتعامل الناس مع هذه الثروة العظيمة بإهمال، إذ ليس هناك متاحف في المستوى وبالعدد الكافي، وليس هناك استغلال للقلاع والحصون لإعادة الحياة إليها وفتحها أمام الزوار لكي يشاهدوا عروضا تحكي تاريخ المكان بأزيائه وحرفه وأسلحته وكل جوانب الحياة اليومية للفترة التي يعود إليها المكان.
وفي العاصمة الرباط رأينا كيف خصصت الميزانيات الضخمة لترميم أسوارها وأبوابها وفي الأخير تركت الشركة المكلفة حفرا وأتربة في كل مكان، وصار الناس يرمون القمامة جنب الأسوار وفي غياب مراحيض عمومية أضحت هذه الأسوار أمكنة للتبول.
إن كل ثروتنا هي تاريخنا وعلينا أن نفهم أن هذه الثروة هي كل ما سنترك للأجيال القادمة، ولذلك فلا يجب أن ننتظر حتى يهدد اليونيسكو بسحب مدننا من لائحة المدن المصنفة تراثا عالميا لكي نتحرك لإنقاذ ثراتها من الاندثار.
وربما يعود عدم تقدير المغاربة لتاريخهم لكونهم لا يشعرون بثقله لكثرة ما عاشوا فيه، لكن الشعوب التي تفتقر للتاريخ تشعر بأهمية ما لدينا وتحسدنا عليه وتتمنى لو أن لها نصيبا ولو يسيرا من تاريخنا.
بلاد مثل المغرب بتاريخها العريق كان يجب أن تتوفر على قنوات عمومية متخصصة في التاريخ بكل اللغات، تنتج برامج ووثائقيات حول تاريخ البلد وعظمائه وقادته، وتشرح للأجيال الجديدة من أين جاء آباؤهم وكيف صنعوا حضارة سارت بذكرها الركبان.
وعوض أن نترك القنوات وشركات الإنتاج الأجنبية تستغل كنوزنا الحضارية لتشكيل تاريخنا على مقاسها فإنه يجدر بنا أن ننكب على هذا الورش بأنفسنا، خصوصا أننا لا نعدم الكفاءات الحقيقية والوطنية لصناعة محتويات تلفزيونية وسينمائية ترفع تاريخنا إلى مستوى العالمية.
عندما نرى كل المليارات من الدراهم التي تم صرفها لمخرجين سينمائيين عديمي الموهبة معطوبي الخيال ونبحث في منجزهم السينمائي عن أثرٍ للتاريخ المغربي لا تكاد نعثر على شيء يذكر، كل ما هنالك مجرد أفلام تروي قصص تافهة لا أحد يتذكرها، إذ لا شيء تم تصويره حتى اليوم حول أمجاد وملاحم هذا البلد.

رشيد نيني




شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...