“أمة الطفل الواحد” .. الصين الدموية بين دعاية الدولة وتجربة الفرد
بدأ بول غوغان مذاكراته بسؤال الناقد الفني العظيم المجهول شارل بودلير “قل لي ماذا رأيت؟”.. هكذا حدد بودلير مهمة الناقد.
رأيت في فيلم “أمة الطفل الواحد” One Child Nation 2019 (إخراج نانفو وانغ وجيالين زهانغ على منصة أمازون فيديو) عشرات الوثائق الدّعائية المصوّرة والمكتوبة التي أنتجها الحزب الشيوعي الصيني لإقناع الشعب بالطفل الواحد والفكر الواحد والزعيم الواحد… رجل وامرأة وبينهما طفل، طفل وحيد سعيد… يتكرر هذا في دعاية ممنهجة ذات نفس طويل على الصحف والجداريات والتلفزيون وفي المدارس.
والنتيجة أن سياسة الطفل الواحد صنعت قوّة الأمة وقلصت أعباء الدولة؛ لأنها سياسة منعت ميلاد 338 مليون طفل. واحتفالا بتحقق الهدف، ظهرت جوقة كبار السن تردد مدائح الحزب وجوقة أطفال ينشدون في المدرسة “حياتنا رائعة جدا في ظل هذه السياسة الوطنية”.
كل هذه الصور المعروضة حقيقية، رسمية، علنية أنتجتها الدولة وأدمجتها المخرجة في فيلمها، ثم قدمت شهادات من أسرتها وقريتها. شهادات لمن عاش التجربة لوقت طويل..
صادمت المخرجة السّردية الحكومية بالسردية الشعبية لتخريب الأولى. يظهر أن الإنجاب محنة في الصين، وأنه من المخجل أن يكون للصيني أخ.
باستجواب الشهود بعديّا عمّا عاشوه، حصلت المخرجة على شهادات استرجاعية لأشخاص مرعوبين مِن أن يعاقبهم الحزب… شهادات تدْحض الدعاية الرسمية، شهادات كانت ستبقى سرية غالبا؛ لأن الدولة البوليسية لن تَسْمح بتصويرها.
في المناطق الريفية الصينية مسموح بطفلين شرْط أن تفصل بينهما خمس سنوات، وفي حالة المخالفة يُهدم بيت الأسرة، تصادر ممتلكاتها، تُختطف النساء وتُقيدن، تجهض الأمهات بالإكراه حتى في الشهر الثامن من الحمل ويتمّ تعقيمهن إجباريا… وفي حالة الولادة يُصادر الطفل ويتخلص منه الحزب… تشهد قابْلة أنجزت 60000 إجهاض وتعقيم… تحكي كيف هربتْ منها امرأة حامل عارية وهي تهذي لتنجو من الإجهاض والتعقيم. تحكي القابلة وتضحك وتبكي وتقيس كمية الدم الذي سال على يديها.
جرى هذا في ثمانينيات القرن الماضي وما بعدها، جرى في صمت بالصين بينما العالم منشغل بالحرب الباردة والحرب العراقية الإيرانية… ثم العولمة وصدام الحضارات وأسامة بن لادن…
أثناء ذلك كان حزب الرفاق يخطّط في أرحام النساء بنفس منطق التخطيط لبناء المصانع والطرق والموانئ… وتقوم الدعاية المصورة بتجميل هذا.
دعاية هدفها تغيير أفكار الناس والتأكيد على أن الحزب مجرم ليس معصوما. دعاية مدعومة بجزرة وعصا، على الجدران إعلانات تقول “أبلغ عن أسرة لديها أكثر من طفل واحصل على 120 دولارا”، وآخر يقول “كل من ينتهك سياسة الطفل الواحد تُصادر ممتلكاته”.
عقابا تعلّق الحكومة لوحات على أبواب المنازل فيها تنقيط لسلوك الأسر الحسن أو السيء. والنتيجة برمجة عصبية أنتجت اعتزازا مخجلا بسياسة الحزب. مثلا، تفسر قيادية حزبية ما جرى قائلة “في حرب التعداد السكاني فضلتُ المصلحة القومية على مشاعري الشخصية”.
تقول امرأة حزينة “تم انتزاع الأطفال من أسرهم وتم بيعهم بوثائق حكومية على أنهم أيتام. من تكلم يعاقب”. كان صوت الدعاية وحده يدوي. وإن الدّعاية هي حربٌ الوعي وتهدف إلى جعل النظام مقبولا، تهدف إلى كسْب الحرب النفسية وتوحيد صف الشعب خلف الحزب الهُمام.
غذّى الخوف من الحزب الصمت وشجع تجارة الأطفال دوليا، كان من السهل تبني طفل صيني في أمريكا… وهنا، فتحت المخرجة فيلمها وسيرتها على عوالم أخرى… ظهرت قصة تتكرر عن أطفال بيعوا وتوائم فصلوا ولن يلتقوا أبدا…
هذا الفيلم هو استخدام مضاد لصوّر الحزب وشهادات الضحايا لدحض دعايته. كانت الشهادات وثيقة حيّة، تقول النساء أمام كاميرا المخرجة ما لن تستطعن قوله أمام كاميرا تلفزة الحزب…
فعلا، لقد حققت الدولة الشيوعية الهدف. منعت سياسة الطفل الواحد ميلاد 338 مليون طفل.
كيف؟
بالإجهاض والتعقيم، وبيع الأطفال الذين نجوا من الإجهاض. ثم التخلص من الإناث، وحين يولد طفل ذكر تنظم حفلات. يُفسّر جدّ سعيد ذلك التمييز بثقة كاملة: “بلا نسْل من الذكور ستنقرض العائلة”.
تقول نصيرة للحزب: “لولا سياسة الطفل الواحد لظهر آكلو لحوم البشر في الصين”.
هكذا، يتحدث أنصار الحزب.
للفيلم بناء ديداكتيكي يعرض وجهات نظر متعارضة بالتناوب. هناك جدل شهادات الإثبات والدحض بصدد حمّام الدم. في الشهادات استرجاع مؤلم لكيف عاش الناس تلك المرحلة. حتى حُجج أنصار الحزب متماسكة مدعومة بالضرورة. هناك من يَنظر إلى سياسة الحزب كقدر.
على الرغم من كل المآسي، فإنه يصعب على المشاهد أن يقرر لمن ينحاز.
فيلم “دولة الطفل الواحد” دعاية فنية مضادة كقوة تحرير، وقد حصل الفيلم على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان صاندانس 2019. دعاية لصالح التحرر في قالب سيرة ذاتية وثائقية لطفلة تحكي سيرتها بالصوت والصورة تحكي بنفسها، سيرة فيها بحث يقود إلى اكتشاف حقائق حجرية يصعب هضمها، يصعب تصحيح الماضي، وفات أوان البكاء.
جوابا عن سؤال شارل بودلير: “قل لي ماذا رأيت؟”، رأيت الرضيعات في المزابل، رأيت صعوبة التعايش مع القهر. بالنظر إلى أرقام الأجنة، فالفيلم مجرد قطرة من بحر الدم الذي سال خلال سياسة الطفل الواحد بين 1979 و2015.
بعد ما رأيتُ، ها كم ما أعتقد:
هذا أبشع مما تخيله جورج أورويل في رواية “1984”.
في أبريل 2020 ومع انتشار فيروس كورونا في العالم، تحدثت الصحف عن نجاحات الصين في كبح الوباء؛ بينما كانت أوروبا تصاب أكثر. بعد ذلك، بدأت تظهر حقائق ومقارنات تكشف الأكاذيب.
لماذا لا تستطيع الصين أن تصبح زعيمة العالم؟
لأن فداحة الدعاية وغسل الأدمغة هي ضد جوهر ذهنية الأنوار، ذهنية عماداها حسب فيلسوف العصر الحديث إيمانويل كانت هما “العقلانية والحرية”.
لا يستطيع الحزب تبني هذا.