حكاية من مكان

العاصمة بريس الرباط
ذ.السعيد التباع.
ننتظر مرور الأستاذ “أنرار” رحمه الله،بمدرسة سيدي حمزة هو الذي يتكفل بمعاينة التلاميذ الذين سيستفيدون من المطعم المدرسي،يلج قسمنا،قصير القامة جميل المحيا،ينظر إلينا،يُعايننا،ينظر إلى تلميذ فيسأله:”فاش خدّام بّاك..؟”،نظرة وسؤال كفيلان بتحديد اجتيازك مرحلة قَبولك للإستفادة من “الإطعام”،على دفتر يُسجل “المحظوظين”،كلنا ننظر إليه ببراءة،وأحيانا نظرة المُحتاجين،ففي ظرف يومين سيتم الحسم،بشغف ننتظر النتيجة…
تتم المناداة،نتصبب عرقا،كلنا ننتظر،المنادى عليهم تخفق قلوبهم الصغيرة فرحا،يختم اللائحة،بعضنا يرقص،وآخرون يتحسرون،عمري آنذاك لم يكن يسمح لي بالاحتجاج،برفع تظلّم للجهات المعنية،نحن المقصيون نكاد نذرف دموعا،قاعتنا الدراسية أصبحت مثل مقهى على شاشتها يلعب فريقا “البارصا” و”الرّيال”،مجموعة مزهوة وأخرى تتحسر،الأستاذ “أنرار” ينصرف،معلمتنا ترى حزنا باديا،ولتطمئننا،فقد وعدتنا بأننا سنستفيد في المرحلة المقبلة…
نحن المقصيون رفضنا هذا الإقصاء،فلا بد ولا مناص من الإستفادة من هذا الإطعام،لا يُعقل أن نسمع حكاياتهم عن “الشعرية” اللذيذة،عن “الكومير” العجيب والفروماج،صديق مدّني يوما بقطعة كومير،كم كان لذيذا،إنه يختلف عن كومير وپاريزيان “النّاوي” رحمه الله،يحكون عن أطباق “الشعرية” الناصعة البياض،عن “بَنَّتِها” العجيبة،يزداد غضبنا،وللتنفيس عن كربتنا،نخبرهم أن ما يأكلونه ليس بشعرية،وإنما هي ديدان بيضاء صغيرة،نختلق الحكايات،إننا لا نغبطهم،إننا نحسدهم على هذه النعمة التي خصّهم بها “سي أنرار” رحمه الله…
وهنا،لا بد من إيجاد طرق للمرور إلى المطعم حتى ولو لن تكون شرعية،تلاميذ المستوى الخامس (بيت الشهادة)،ببنيتهم القوية و”زعامتهم”،يقفزون فوق السور الذي بين مدرسة سيدي حمزة التي كنت أدرس بها وبين مدرسة سيدي عبد العزيز حيث المطعم،يتسللون،ربما كانت هذه أول هجرة غير شرعية،يترقبون غياب الحارس،سرعان ما يجدون مكانا داخل قاعة المطعم،فتُروى حكاياتُهم،بطولاتهم…
نحن الصغار،لا نقدر على تسلق السور،ولا نملك تلك الشجاعة،فالمديرة “للا رقية” رحمها الله كانت صارمة،ومن الصعب أن تدع مثل هذه “الفوضى” تمر مرور الكرام..
بعد أيام قليلة،أدمغة وكفاءات بيننا اهتدوا إلى طريقة أخرى ل”الهجرة” إلى هذا المكان دون مخاطر تُذكر،فللولوج إلى مدرسة سيدي عبد العزيز والمطعم،هناك ورقة يتم تسليمها للمستفيدين بها خاتَم مديرة المؤسسة،وهناك من الأطفال من آمن بالديمقراطية منذ الصغر،بمجرد أخذهم لوجبتهم ومغادرة المكان،وبعيدا عن عيون متلصصة،يسلمون ورقة الدخول للآخرين،في إطار “نجوع معا أو نشبع معا”،رائعون أنتم أيها الصغار،قلوبكم كبيرة..
حصلت على ورقة،أرتعد،فربما قد تكون هناك مراقبة،بحث تفصيلي ثم متابعة!أدخل المكان،كم هي جميلة هذه المؤسسة،عند باب المطعم،تراءى لي الجالسون،أصدقاء يلوحون لي للجلوس بقربهم،فرحهم برؤيتي عظيم،امرأة ضخمة بلباس أنيق،أمامها “طنجرة” كبيرة،أخيرا سأنغمس في “جبّانية الشعرية” والكومير اللذيذ،سأنسى المخاطرة التي قمت بها بتسلمي ورقة ليست لي…
خرجت ورفاقي مزهوين،منتشيا بهذه الوجبة ومنتشيا بخدعة الورقة،بعدها سأكرر هذه المغامرة في غير مناسبة…
اليوم،ها أنا جالس بهذا المكان،وبدل طبصيل شعرية،أحتسي فنجان قهوة،المدرسة تحولت إلى “مركز الصانعة التقليدية” ومطعم،المكان مازال جميلا،جذابا،رغم التغييرات الجذرية فها أنا أنظر إلى الجهة الأخرى حيث مدرسة سيدي حمزة والتي جدرانها ونوافذها تنظر إلي بشموخ وأنظر إليها بكل ذكرياتي الجميلة،بكل حمولاتي الطفولية..
اختفت الشعرية والكومير،المطعم أصبح مطعما آخر،أكلات خفيفة ووجبات ومشروبات،بين السواح الجالسين أفتخر أنني المخضرم بينهم،متحف رائع،نساء جالسات بمعمل صغير يظهرن مهاراتهن في الصناعة التقليدية،ما أشبه المكان بسقاية “اشرب وشوف”،تحتسي مشروبك وأنت تنظر إلى فن وفنانات بمعنى الكلمة..
مكان ملىء بذكريات،بشغب وشغف،بطفولة حقيقية،وبحكايات لا تنتهي…